من طرف webmaster الإثنين أكتوبر 20, 2008 12:31 am
القصة
الفصل الأول
الذهاب إلى ستايلز
" قضية ستايلز " ، ولكن نظراً للشهرة العريضة السيئة التي صاحبت تلك القضية ، طلب مني
صديقي بوارو ، وكذلك العائلة ، أن أكتب القصة كاملة ، حيث من شأن هذا أن يُسكت الشائعات البغيضة التي مازالت تمور حول القضية .
ومن ثم ، سأعكف على تسجيل الظروف التي أردت إلى ارتباطي بهذه القضية .
كنت قد عدت لتوى من جبهة الحرب ، وبعد أن قضيت بضعة أشهر فى " بيت الاستشفاء " ،حصلت على إجازة مرضية لمدة شهر واحد .
ولما لم يكن لى أقارب أو أصدقاء في الجوار ، وشرعت أفكر فيما يجدر بي عمله ، وعندئذٍ صادفت جون كافنديش .
كنت قد رأيته مرات قليلة فى السنوات الماضية والحق أنني لم أعرفه شخصياً عن قرب ،كان رئيسي طوال فترة خمسة عشر عاماً ، رغم أن مظهره بالكاد يدل على سنوات عمره الخمسة والأربعين .
وعلى أية حال ، لقد قضيت معظم سنوات صباي فى ستايلز ، في منزل أمه في إسيكس .
أخذنا نسترجع الأوقات القيمة في نشوة ، وانتهى الحديث بأن دعاني جون إلى ستايلز لقضاء بعض الوقت هناك .
" لكم ستسر أمي لرؤياك مرة أخرى بعد كل هذه السنين " .
" أتراها بخير ؟" .
" نعم .. أتعرف أنها تزوجت مرة أخرى ؟" .
لم أستطع للأسف أن أخفي دهشتي ، فالسيدة كافنديش التي تزوجت والد جون حين كان أرملاً ، كانت سيدة جميلة متوسطة العمر كما أذكرها ، ولا يمكن بأية حال أن تكون أقل من السبعين عاماً الآن ، ولا حتى بيوم واحد .
وأنا أذكر أنها كنت ذات شخصية نشيطة ، واستبدادية ، وتميل نوعاً ما إلى الأعمال الخيرية والشهرة الاجتماعية كما كانت مغرمة بافتتاح المتاجر وبلعب دور " السيدة الخيرة " . بيد أنها كانت كريمة جداً، وصاحبة ثروة كبيرة .
إلا أن زوجة أبيهما كانت دائماً بالغة الكرم معهما ، والحق أنهما كانا صغيري السن وقت أن تزوج أبوهما ثانية ، ولطالما اعتبراها أماً حقيقية لهما .
ولطالما كان لورانس ، الابن الأصغر ، شاباً رقيق المعشر . كان مؤهلاً لأن يصبح طبيباً ، إلا أنه ترك مهنة الطب في وقت مبكر ، وعاش في المنزل مركِزاً على طموحاته الأدبية ،برغم أن أشعاره لم تلق نجاحاً أبداً .
أما جون فقد زاول المحاماة لبعض الوقت ، ثم استقر أخيراً على حياة مالك المنزل الريفي ، فتزوج منذ سنتين ، وأخذ زوجته للعيش في ستايلز ، ولكني ؟أعتقد أن جون يود لو أن أمه تزيد من حصة المال التي تعطيه إياها ، ومن ثم يتمكن من شراء منزل خاص به ، إلا أن السيدة كافنديش تحب وضع خططها بنفسها ، وتتوقع من الآخرين أن يتبعوها ، ولا شك أنها كانت تمسك بزمام الأمور هنا ؛ أي حافظة النقود .
لاحظ جون دهشتي لنبأ زواج أمه الثاني ، وابتسم على نحو حزين .
" ذلك النصاب الصغير الحقير " قالها جون بشكل وحشي ، ثم أردف : " بوسعي أن أقول يا هاستينجز أنها تجعل حياتنا صعبة .
أما بالنسبة لإيفي . . أتذكر إيفى ؟ "
" كلا"
" نعم . . أعتقد أنها جاءت بعد رحيلك . إنها خادمة أمي ، ورفيقتها ، . . وكل شيء . . كم هي جيدة إيفي هذه العجوز ! . . لست أعني أنها صغيرة أو جميلة ، ولكنها جيدة جداً في عملها . "
" كنت ستقول شيئاً عن . . ؟ "
" نعم . . هذا الرجل ! . . لقد ظهر من العدم ، بزعم أنه ابن عم ثانٍ للعجوز إيفي أو شيء من هذا القبيل ، رغم انه لم يبدُ متحمساً بحق لإقرار هذه العلاقة .
لا شك أن هذا الرجل ذو طبع غريب ، من السهل ملاحظة ذلك ؛ لحية سوداء كبيرة ، وحذاء جلدي عالي الرقبة مهما كان الطقس ! إلا أن الأمور استقامت له على الفور . . فاتخذته أمه كسكرتير لها . . أتعرف أنها تدير مئات من الجمعيات ؟ " .
أومأت له إيجابياً .
" حسناً . . بالطبع الحرب جعلت من المئات آلافاً ، ولا شك أن الرجل كان غير عونٍ لها . ولكنها كادت تقتلنا جميعاً منذ ثلاثة شهور ، عندما أعلنت فجأة خطبتها لألفريد ! إنه يصغرها بنحو عشرين عاماً على الأقل !
و واضح جداً أنها عملية صيد ثروات سافرة ؛ ولكن كما تعرف فإنها لا تستمع لأحد ،ولقد تزوجته بالفعل " .
" لابد أن الموقف صعب عليكم جميعاً " .
" صعب ! . . بل بشع ! " هذا ما حدث ، وبعد ثلاثة أيام من ذلك اللقاء كنت أنزل من القطار في محطة سانت ماري بستايلز ؛محطة صغيرة سخيفة ، أقيمت بلا سبب واضح وسط الحقول الخضراء والطرق الريفية . وكان جون كافنديش منتظراً على رصيف المحطة ، ثم قادني إلى الخارج حيث سيارته .
" كما ترى . . لم يزل لدى ّ قطرة أو اثنتان من الوقود ، بفضل أنشطة أمي بالطبع . "
كانت قرية سانت ستايلز تقع على بعد ميلين من تلك المحطة الصغيرة ، بينما يقع المنزل ستايلز كورت على بعد ميل من الجانب الآخر .
كان يوماً هادئاً في أوائل يوليو ، وبالنظر إلى بلدة إسيكس المستوية ، المستلقية في اخضرارها وهدوئها أسفل شمس العصر ، من المستحيل أن يصدق المرء أن رحى الحرب الشعواء قد دارت فوق هذه الأرض منذ وقت ليس ببعيد . شعرت على نحو مفاجئ أني أنصهر إلى عالم آخر . وبينما كنا نعبر بوابة المنتجع ، قال جون : " أخشى أنك ستمل من الهدوء الشديد هنا يا هاستينجز ".
" إن هذا تحديداً هو ما أنشده يا عزيزي ".
إنه شيء لطيف إذا ما كنت تبغى حياة عاطلة كسولة . أما أنا فأحفر في المناجم مع المتطوعين مرتين كل أسبوع ، وأساعد في عمل المزارع ، بينما زوجتي تعمل بإنتظام " في الأرض " فهي تنهض في الخامسة من كل صباح لحلب اللبن ، وتظل تعمل حتى موعد الغداء . إنها حياة جميلة ومرفهة ،فقط إتمنى لو إنها لم تكن لهذا المدعو ألفريد إنجلثورب !"، ثم ألقى نظرة مفاجئة على عدادات السيارة ، ثم إلى ساعة يده ، وقال : " ترى هل لدينا وقت لاصطحاب سنثيا . كلا ، أظنها قد غادرت المستشفى " .
" سنثيا !. . لست أظنها زوجتك ؟ " .
" كلا . . سنثيا هي ربيبة أمي ؛ ابنة إحدى رفيقاتها من أيام المدرسة كانت قد تزوجت من محامٍ نذل . فشل الرجل في حياته تماماً ، وتُركت الفتاة يتيمة ومفلسة . وبالطبع أتت أمي كالمنقذ ، وهاهي سنثيا معنا منذ نحو عامين . وهي تعمل في أحد المستشفيات في تادمنستر ، على بعد سبعة أميال . "
وبينما كان يتفوه بتلك الكلمات الأخيرة ، توقفنا أمام المنزل الجميل القديم ، حيث كانت هناك سيدة ترتدي تنورة واسعة وتنحني فوق مشتل من الزهور ، واستقامت عند إقترابنا .
" أهلاً يا إيفي . . أقدم لك بطلنا الجريح ، السيد هاستينجز – الآنسة هوارد . "
صافحتني الآنسة هوارد بقبضة حميمة قوية . كانت امرأة حسنة المنظر في الأربعين من عمرها ، ذات صوت عميق ، يكاد يكون رجولياً في نغماته الجهورية . كما كان لها جسد مربع ضخم ، وقدمان تتناسبان وإياه – وقد انتعلت حذاءً جلدياً سميكاُ . ولم يمض وقت طويل حتى اكتشفت أن حديثها يتخذ أسلوباً بسيطاً متقطعاَ أشبه بالتلغراف .
" تنمو الأعشاب الضارة كالنار ترعى في الهشيم ، حتى أنني بالكاد أستطيع التخلص منها . احترس . . فقد تنقض عليك ذات مرة ! "
أجبتها قائلاً : " سأكون سعيداً بحق لو ساعدت في هذا . . فأصير مفيداً في شيء ما . "
" لا تقل هذا . . أتمنى لو لم تكن مفيداً مثل تلك المرة الأخيرة حيث جرحت . "
قال جون ضاحكاً : " يا لكِ من متهكمة يا إيفي . .
أين سنتناول الشاي اليوم ، بالداخل أم بالخارج ؟ " .
" بالخارج . فاليوم أروع من أن نقضيه داخل المنزل " .
:" تعالي إذن ، كفاك بستنه اليوم . لقد عمل العامل بأجرة . . هيا . . تعالى وانتعشي قليلاً . "
" حسناً .. " ، قالتها الآنسة هوارد وهي تخلع قفاز البستنة مضيفة : " أتفق معك " .
ثم قادتهما حول المنزل حيث كان الشاي معداً أسفل ظليلة إحدى أشجار الجميز الضخمة .
ورأيت سيدة تنهض عن أحد المقاعد الخوصية ، وتتقدم بضع خطوات نحونا .
قال جون : " إنها زوجتي يا هاستينجز " .
لن أنسى ما حييت تلك اللحظة الأولى التي وقعت فيها عيناي على ماري كافينديش ؛ جسدها الطويل المتسق وقد حددته خلفية الضوء ، والإحساس الواضح بالنيران الهادئة التي وجدت أفضل تعبير لها في عينيها الرائعتين ، واللتين لم أر مثلهما على امرأة عرفتها قط ، بذلك السكون القوي الحاد الذي ارتسم فيهما ؛ وقد وشى بروح برية جامحة حبيسة ذاك الجسد المتحضر الفاتن ــ لم تزل كل تلك الأشياء تحترق في ذاكرتي ، وأبداً لن أنساها . حيتني بكلمات قليلة رقيقة في صوت خفيض، جلست بعدها على أحد المقاعد الخوصية وقد غمرتني سعادة بالغة أني قبلت دعوة جون . قدمت لي السيدة كافينديش بعض الشاي ، وقد زادت ملاحظاتها وأسلوبها من انطباعي الأول عنها ؛ كونها امرأة ساحرة بحق . ودائماً ما يكون المستمع المنصت مشجعاً على المضى في الحديث ، فشرعت أصف في شكل مرح بعض الأحداث التي مررت بها في دار الاستشفاء ، وبطريقة أفتخر بأنها كانت ممتعة لمضيفتي . أما جون، وبرغم من كونه رجلاً طيباً ، إلا أنه لم يكن متحدثاً لبقاً .
وفي هذه اللحظة تنامى إلىّ صوت أذكره جيداً عبر باب المنزل القريب منا :
" سوف تكتب إذن للأميرة بعد الشاي يا ألفريد ؟
وسوف أكتب أنا إلى السيدة تادمنستر لليوم الثاني . أم يجدر بنا الانتظار حتى نسمع من الأميرة ؟ فحال رفضت ، يمكن للسيدة تادمنستر أن تقوم بالإفتتاح في اليوم الأول ، فيما تفتتح السيدة كروسبي اليوم الثاني . ثم هناك الدوقة بالنسبة لمهرجان المدرسة . "
تبع ذلك غمغمة رجل ، ثم أجابت السيدة إنجلثورب: " نعم ، بالتأكيد . . لا بأس أن نفعل ذلك بعد إحتساء الشاي ، لكم أنت حكيم يا عزيزي ألفريد " .
انفتح الباب أكثر ، وطلت منه امرأة جميلة ، كبيرة السن ، ذات شعر أبيض ، بملامح تنم على سطوة وسيطرة ، ثم خرجت منه إلى الأرض الشعبية ، وقد تبعها رجل في سلوك ينم على الإحترام .
حيتني السيدة إنجلثورب في حميمة وعذوبة قائلة : " أليس من الرائع أن أراك ثانية سيد هاستينجز بعد كل هذه السنين ؟ عزيزي ألفريد . . أقدم لك السيد هاستينجزـ وهذا هو زوجي . "
نظرت ببعض الفضول نحو " عزيزها ألفريد " ، وبالطبع بدا لي أجنبياً ، ولم أتعجب لإعتراض جون على لحيته ، فقد كانت واحدة من أطول اللحى التي رأيتها في حياتي وأكثرها سواداً . وكان الرجل مرتدياً نظارة ذهبية بدون ذراع ، بينما كانت ملامحه جامدة على نحو عجيب ، وأدهشني إحساسي أن الرجل يليق بخشبة المسرح بينما يبدو شاذاً في الحياة العادية . وكان صوته عميقاً وغير ودود ، وهو يضع يداً متخشبة فوق يدي ، ويقول